كنيسة مار قرياقوس في بلدة بطنايا
البطريركية الكلدانية/
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
أحداث موجعة لا تزال راسخة في الاذهان
ما حدث لم يكن يتخيَّله أحد. ففي يوم 10 حزيران 2014 أعلن تنظيم داعش(عناصر الدولة الاسلامية)، الخلافة الاسلامية في مدينة الموصل، وبدأ بتطبيق الشريعة الاسلامية. في 17 تموز خُيِّر المسيحيون بين مغادرة المدينة، أو دفع الجزيّة، أو القتل، ومصادرة املاكهم. وفي 20 تموز خرج من تبقى من مسيحيي الموصل، وكتب على ابواب بيوتهم حرف (ن) أي النصارى!
في ليلة 6-7 اب من نفس العام، خرج نحو 120.000 ألف مسيحي في حالة من الرعب، من بلدات سهل نينوى بلباسهم، تاركين كلَّ شيء يملكونه، للنهب والسلب، من قبل عناصر التنظيم، وعدد من الجيران!
لجأ معظم المُهجرين الى مدن أقليم كردستان الآمنة، واستقبلتهم الكنائس الكلدانية التي تبقى مصدر قوة للمسيحيين، في عينكاوا / اربيل، ومدن وقرى دهوك وزاخو والسليمانية. وخلال ثلاث سنوات هبت الكنائس بتنوّع مسمياتها، بدعم من الجمعيات الخيرية لتوفير السكن والطعام ومواصلة دراسة اولادهم.
وبالرغم من تحرير مناطقهم عام 2017، وقيام الكنائس والجمعيات الخيرية بتأهيل بيوتهم ومدارسهم وكنائسهم، ودعمهم لم يرجع سوى 40% (الموصل 110 اشخاص من مجموع 50.000 بحسب الخوراسقف رائد عمانوئيل كلو، وتلكيف 52 عائلة متعففة من اصل 800 عائلة بحسب الاب شاهر نوري)، اما الباقون فهاجروا الى بلدان الشتات، أو استقروا في اقليم كردستان الذي استقبلهم، بسبب غياب الثقة بمستقبل مستقر وآمن في أماكنهم الأصلية، بل نقلت بعض الكنائس مقرّها الى عينكاوا، وشيدت لها كنائس خاصة بها في الاقليم.
هذه المأساة الجماعيّة بحق المسيحيين والاقليات الاخرى لا تزال عالقة في أذهانهم. وقد عمقها ما يتعرضون له بعد التهجير من انتهاكات تفزعهم وتدفعهم الى الهجرة، وتهدد استمرارية وجودهم في بلدهم الأم: اذكر منها: هيمنة الميليشيات على مناطقهم، والإقصاء الوظيفي بسبب منطق المحاصصة، وعدم دفع رواتب موظفي اقليم كردستان بانتظام، وقانون الاحوال الشخصية لاسيما أسلمة القاصرين، والاستحواذ على مقدراتهم وأملاكهم من جهات سياسية مُتنمِّرة.
بعض الإحصائيات:
نحو 1275مسيحي قتل في حوادث عنف متعددة في عموم العراق في الفترة بين عام 2003 – 2023.
اُختطف عدد من رجال الدين في الموصل وفي بغداد واُستُشهِدَ عدد منهم، المطران بولس فرج رحو، رئيس أساقفة الموصل للكلدان والاباء: رغيد كني وبولس اسكندر، ويوسف عادل، والابوان ثائر عبدال ووسيم صبيح في مذبحية سيدة النجاة( 2010).
فُجِّرت 85 كنيسة ودير في بغداد والموصل والبصرة من قِبَل المتطرفين ثم داعش.
الاستحواذ على 23 ألف بيت وعقار لهم وللاقليات. هذا موثّق في حالة مجئ حكومة تضع الامور في نصابها.
هجرة أكثر من مليون مسيحي الى الخارج قلصت عددهم بشكل كبير.
نحو حلول دائمة
من المفيد ان يدرك العراقيون إنْ بقيت الامور على ما هي عليه حاليا من دون معالجة حقيقية للخروج من هذه الازمات ليعيش الناس بالسلام، وإن استمرت الهجرة فسوف يفرغ العراق من المسيحيين، وما يمثلونه من اصالة وعمق تاريخي وحضاري من هوية العراق. ينبغي إدراج تاريخهم في مناهج المدارس العامة العراقية. رغم الجراح يبقى المسيحيون يحبون بلدهم، وكنيستهم، ويتمسكون برسالتهم.
1- يُنتظر من الدولة الاعتراف بخصوصية سكان بلدات سهل نينوى المكسورين، واحترام هويتهم ودعمهم. وسحب الميليشيات المهيمنة في مناطقهم، وتسليم الملف الامني للشرطة الاتحادية والحراسات من ابناء هذه البلدات؛ وذلك وفق اسس قانونية ودستورية نافذة.
2- الفكر الالغائي ليس لصالح الاسلام . أديولوجية داعش ومثيلاتها كونها فكر متشدد، يلغي كل كل ما يختلف معهم في الحياة والدين. يستخدمون العنف والقتل وحرق الكرامات. لا يفهمون أن العالم تغير، وأن التنوع الديني والمذهبي والثقافي وحرية التعبير غَدَت قيمامعترفاً بها عالميًّا. يجب تجريم وإدانة من يحرض على الكراهية والعنف. وبنفس المنطق خطاب الازدراء والدعاء ضد الديانات، لاسيما ما تظهره المنتديات الالكترونية في مواقع كثيرة للتواصل الاجتماعي. وهنا نشدد على دور القيادات الدينية الكريمة ذات التأثير الكبير في اشاعة القيم الانسانية والوطنية المشتركة.
- بناء دولة حقيقية ديمقراطية مدنية. ما يُعيد الأمل إلى المواطنين أيّا كانت انتماءاتهم هو ان تعمل الحكومة والاحزاب السياسية الرصينة، على وضع خارطة طريق لاصلاح الامور وبناء دولة ديمقراطية حقيقية مدنية، مستقلّة وقوية، تتجاوز التوتّرات الطائفية، وتحتضن جميع المواطنين بكافة أطيافهم، ومكوناتهم الدينية والقومية على حدٍّ سواء، مستندة إلى قاعدة دستورية عادلة. وتقوم على اعطاء الأولوية للتربية وتثقيف مواطنيها وتنشئتهم على الولاء المطلق للوطن، والارتقاء إلى آفاق جديدة، بما يحقق الأمان والاستقرار والنمو. ثمة ضرورة لتغيير المناهج التعليمية الحالية.
وفق تلك القاعدة الدستورية تتعامل الحكومة مع” الاقليات” على مبدأ المواطنة والمساواة، ومحافظة حقوقهم، وتوفّير لهم سبل العيش الكريم.
هذه البيئة الملائمة ستشجع الكفاءات والنخب على العودة الى البلاد، وتجلب استثمارات وتخلق فرص عمل، وتساهم في اعمار البلد وازدهاره، وتضع العراق في مصاف الدول المتحضرة.